كانَ جاسر يجلسُ على شاطئ البحرِ , يسبحُ بعينيهِ وسطَ الموجِ الهادئ كي يستخرجَ بعض مكنوناتِ نفسهِ ,
فقد إعتادَ أنْ يطوي مع كل موجةٍ أحدَ أحزانهِ ..
هذا الشابُ الذي بدأتْ بعضُ الشعيراتِ البيضاءِ تشتعلُ في رأسه رغمَ أنَّه ما زال في مقتبلِ العشرينيات
- أي في ربيعِ العمرِ - لكنَّ الحزنَ لا يفرِّقُ بينَ شابٍ وعجوز فالأحزانُ قد كستهُ وأحاطت به من كل جانب ,
البحرُ وحده هو الأدرى بكلِّ خلجاتِ نفسه فهو صديقهُ الذي لا يفارقهُ ورفيقهُ الذي يؤنسهُ ,
وبينما هو جالسٌ سمعَ صوت المطرِ يتساقطُ حوله ويتزايدُ شيئاً فشيئاً , لكنه لم يُعرهُ أيّ إهتمام
وعاد بذاكرتهِ إلى عامٍ مضى ..
حيثُ البسمة التي لم تكن تفارقهُ وفلسفتهُ العجيبة في الحياة ,
فقد كان يرى الحياة أبسط بكثير مما يراها الكثيرون لا يؤمن بما يُسمى الحبّ
لا يقبل أي إهانة لكرامتهِ من أي شخص ..
وفجأة ودون سابقِ إنذار إقتحمت تلك المتوهجةِ بالجمالِ والرقةِ والعذوبة حياتهُ المرحة البسيطة أصبحَ يراها يومياً بدأ
يقتربُ منها يوماً بعد يوم إن شعُرَ بألم وجدها أول من تزيل آلامه تخرجه دائماً إلى حيثُ البسمة المعهودة وفجأة وبينما هو
يسيرُ مع الأيام أحسَّ أنه لم يعد يستطيعُ البعد فجلس مع نفسه وظلَّ يفكر ومرت عليه عدة ليالي وهو مازال مضطرباً
يتساءل ..
ماذا حدث !
هل أحببتها !!
هل وقعتَ في الحبِّ الذي لم تؤمن بهِ يوماً !
وبينما هو وسط تلك التعقيداتِ والأسئلة التي لم تعد تفارقه أدركَ بالفعل أن حياته أصبحت مرتبطة بها فهي الحبّ الذي
هزّ حياته وغير كل مفاهيمه ومصطلحاته الفلسفية ..
فقرر بعد تفكيرٍ طويل الإعتراف بحبِّهِ لها وبالفعل تمّ الأمر على أجملِ ما يكون واعترفت له أنها تبادله نفس الحبّ وبدأت
الأمور تتلون بلونِ الأزهارِ وتفوحُ منها رياحينُ النبضاتِ الصادقة ..
وفي يومٍ من الأيامِ وهو جالسٌ في مقرِّ عملهِ يباشرُ مهام وظيفتهِ ويحدوهُ الشوق , فقد مرَّ أكثر من أسبوع لم يستطعْ خلاله أن
يراها لظروفِ سفرهِ المفاجئ , وبينما هو يعمل ويفكر إذا بالفراش يخبره بأن المدير يسأل عن زميله المتغيب لهذا اليوم إنه
صديقهُ عاصم فأخبر الفراش أنه سيذهب للمدير بنفسه ليبين له سبب تغيب صديقه , فقام جاسر وذهبَ للمدير
وعندما دخل عليه أخبره أن عاصم متغيب بسبب ظروف مرضه , فأخبره المدير أنه لابد من إمضاء عاصم على أوراق
مهمة ولا يمكن أن تنتظر للغد كي يستطيع إلحاقها بخزانة الشركة قبل الجرد فابتسم جاسر رغم أن الحزن يملأه وقال
سأذهب له يا حضرة المدير وسأحضر الأوراق منتهية صباح باكر بإذن الله ..
ولسان حاله يقول لن أستطيع أن أراكِ اليوم يا نبض قلبي فذهابي لعاصم وهو في حالته المرضية سيضطرني لإمضاء اليوم
معه فأنا صديقه الأقرب وهو يعيشُ وحيداً بعد وفاة والده ووالدته في حادثِ العبارة الأليم منذ سنوات .
وصلَ جاسر بسيارتهِ أمام منزل عاصم وصعدَ السلم فالأسانسير كالعادة معطّل ولكن شقة عاصم في الدور الثالث
وليست بعيدة ..
وصل جاسر للشقة وقبل أن يدُقَ الجرس سمع صوتاً صادراً من الشقة
إنّه صوتٌ يعرفه فركزّ قليلاً إنه صوتُ ريهام حبيبة جاسر !
كيف أتت إلى هنا وماذا يحدث !!
واصل جاسر التصنت على المحادثة ..
عاصم : أنا لم أعد أقدر على مخادعة صديقي أكثر من هذا ولا أعرف كيف تقابلينه وتخدعيه كل تلك المدة دون أن
يشعر ألا تفهمى أنا لا أحبّكِ , أنتِ مجرد نزوة في حياتي وللآسف لم أعرف أنكِ حبّ حياته إلا بعد أن وقعتُ في الخطيئةِ
معكِ !
ريهام : عاصم أنا أحبُّكَ أنت , أما جاسر فهو مجرد صديق وأنا ألاطفه فقط حتى يملّ ويبتعد فأنا أخاف أن أصارحه
خوفاً على مشاعره وأعصابه !
عاصم : وإن عرف جاسر بالأمر في أي وقت .. ما الحل ! لقد أصبحت أتغيب من العمل كي لا أراه أمامي فكلما
نظرتُ بوجهه سمعتُ صوتاً يعذبني ويقول دائماً يا خائن يا خائن !
ريهام : كما أخبرتكَ حبيبي سيأتي اليوم الذي يدرك فيه جاسر الحقيقة وسيتمنى لنا السعادة فأنت صديقه وهو لن يتمنى
لك التعاسة وهو لن يجبرني على المكوث معه رغماً عني !
وفجأة سمعا صوتاً صادراً من ناحية الباب فجرى عاصم وفتحج الباب فإذا بجاسر مُلقى على الأرض فاقد الوعي ..
بعد يومين خرج جاسر من المستشفى وعاد لمنزله وهو لا يكاد يرى أمامه وقد قدّم طلب نقل من الشركة لأحد فروعها
البعيدة وأصبحت عادته من وقتها أن يجلس أمام البحر يشكو له ويحكي له آلامه وأحزانه !
لا يدري لماذا فعلتْ ريهام به كل هذا .. لماذا تحوَّل الحلم فجأة إلى كابوس !
كان يمكنها أن ترفضَ من البداية .. لم الآلام والعذاب .. ألم تجد سوى عاصم أعزّ أصدقائهِ !
أسئلةٌ كثيرة تدور برأسه ..
لكنه في الأخير اقتنع بأن :
" هناك من خُلقَ ليرسم البسمة على وجوهِ الآخرين رغمَ أنّ قلبه لا يعرف معنى الإبتسامة "